Rustin Spencer Cohle

“I think human consciousness is a tragic misstep in human evolution. We became too self aware; nature created an aspect of nature separate from itself. We are creatures that should not exist by natural law. We are things that labor under the illusion of having a self, a secretion of sensory experience and feeling, programmed with total assurance that we are each somebody, when in fact everybody’s nobody. I think the honorable thing for our species to do is deny our programming, stop reproducing, walk hand in hand into extinction, one last midnight, brothers and sisters opting out of a raw deal.” Rustin Spencer Cohle

26/06/2012

حجر الورد - حسين البرغوثي


St.Rita's rosewood.

كلما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارةُ "، قال النِفَّريّْ. ورأيتُهُ يدخلُ الصحراء" غريباً كوحشِ اللهِ في الجبل "، بين عروةِ بنُ الوردِ يحسو قُراحَ الماءِ، والماءُ بارِدٌ، وبين وقفات النِفَّريّْ.
جاءِ إلينا منحدراً من الكهفِ، بعد أن نامَ سبعَ قرونٍ، وكلبهُ باسطٌ ذراعيهِ بالوصيدْ. كان غريبَ الزيِّ واللغةْ، وعِملتُهُ من مملكةٍ قديمةٍ، قلبُها تجارُ السوقِ والحراسُ والجباةُ، ما لهذا النبيِّ يمشي ويأكلُ في الأسواقْ؟ قالوا. فقالَ بأنَّ الشِّعرَ منضبطٌ، والروحُ تشطحُ، والقلبُ والقالبُ مفصولانِ بحرفِ الألفِ الذي يرعى العشبَ كالثيرانِ، ويشربُ الماءَ من بحيرةٍ منعزلةٍ خلفَ غاباتٍ مقمرةِ الإتِّساعْ.
كان المسافةَ بين الوردةِ والفيضـــانِ، بين الفوضى والتحنيط، حوارَ الهندسةِ مع الماءِ، وجهاً نصفُهُ الأولُ من رخامٍ والآخرُ من نارٍ ورقصٍ جنونيّْ، وكان العتمَ الكامنَ في روحِهِ يحاولُ ذبحَ النارِ بلونِهِ، فتهدأَ ريحْ.كنا نرتادُ مقهى النردِ في سوقِ تدمرَ القديمةِ، أيّامَها، كي نستريحَ منَ التجارةِ في بخارى. وكانت جمالُنا تَعْلِكُ الوردَ عندَ البوابةِ الشرقيةِ، ونسخرُ من مشاغلِهِ بحرفٍ أو بجملةٍ. لِمَ؟ قلنا. وعرضنا عليه الخزَّ والخبزَ، قال بأن إبداعَهُ جفَّ، وواد عبقرَ خالٍ، وعرافةُ القمرِ التي دلتهُ أرتهُ محيطاً، أو محيطينِ منحوتينِ من حجرٍ، والموجُ المنحوتُ من حجرٍ يوحي بوهمِ الحركةِ الزرقاءَ. وكذا كانت جمالُنا تَعْلِكُ الوردَ، فبكى، مختلفاً عنا. لم يكُ يبحثُ عما يتشابه في ملامِحِنا من تضاريسْ. قالَ: نصفُ القمرِ أسودٌ، والنصفُ أصفرٌ، وسـأل عن هذا الصوفيِّ الذي وقعَ في حبِّ بحيرةٍ. وتحدَّثَ عن مخطوطاتٍ في معبدٍ صينيٍّ، ربما تشاو-لين. وكما قلتُ لكْ، كان غريبَ الزيِّ واللُّغةْ. كنا نلتفُّ عليهِ كزنزانةٍ، فينبسطُ كبحرٍ وينسرحُ، ومحيطاتٌ أخرى فيه ظلتْ خارجَ العِبارةْ.
وكنا نخافُ منه أيضاً، لأن نساءنا انجذبنَ إليه، حتى أن جاريةً رزينةً مشتْ في نومِها، والهواءُ يطيِّرُ ثوبَها الأزرقَ الشفافَ، كمن داختْ من القمرِ والنظرةِ في النيران المُمَغْنَطةِ، مشتْ نحو تمثالِ إلهٍ عند البوابةِ الشــــرقيةِ، ونزلَ
التمثالُ ببطءٍ كي يدخُلَها، قلنا جُنَّتْ ‍‍! فقالت إنّهُ هو الذي لا مناصَ منه، الخيطُ الممتدُّ في الحُلُمِ، هو، الذي لا ينسى. وأُزحْنا من بين أفخاذ نسائِنا، مِنهُنَّ أُزِحنَا وبسبَبِهِ. وكنا نسمعُ ضِحكَتَهُ في قاعاتٍ مغلقةٍ لعرضِ اللوحاتِ، ومن خلفِ البواباتِ الحديدِ نُحسُّ بحريةِ الصوتِ فيهِ، ونحزنْ. سافرَ نرجسُهُ في مرايا ظلامنا !
لم تعدْ الأنهارُ هيَ هيَ، وبواباتُ طيبةَ لم تَعُدْ هيَ هِيَ، عندما مرَّ، كأنّ شيئاً ما حدثْ. عيونُنا كانت تشذُّ فنعيدُها إلى السويّ، كما أعدنا جِمالَنا إلى بخارى. بعضُنا قالَ الإستثناءُ هو الإستثناءُ، وآخرونَ بأنَّهُ مُتَلَبِّسٌ وجُنونٌ، قلتُ شاذّاً عنهُ، وقلتُ فذّاً، وخِفْنا منه. لم يعدْ يذكُرُهُ أحدٌ من جيلِنا، لا يبكي عاديٌّ على استثناء. أخرجناهُ إلى الهامشِ، كان "التطرُّفَ" كنا لسنا "التطرُّفَ" أعني احتجناهُ لكي نُعَرِّفَ من نَحنُ، وسَامَ، خرجَ من الصفحةِ والهامشِ إلى شيءٍ أبيضٍ، وعيٍ أبيضٍ ربما، وسمِعنا بأنه غادر.
صار صامتاً، يتأرجحُ عندَ البوابةِ الشرقيّةِ في أُرجوحةِ قشٍّ مُعلَّقةٍ بين شجرتينِ، كتلكَ المستخدمةِ في الأمازون، وكنا هناك نزوِّجُ أبناءنا لبناتِنا، نعزفُ النايَ ونحتفلُ، ويبقى صامتاً، ويهزُّ رأسَهُ كقط.
لِمَ لا يفرحُ؟ قلنا. ليست هذه نشوةً، قالَ، فخطوتُنا لا تذوِّبُ الثلجَ في زُرقَةِ السماءِ، ولا الظلَّ في الضوءِ، ولا الروحَ فيها، وكان حزيناً لأن نشوَتَهُ أعمقُ من فرحِنا، ربما لم نَكُ آلهةً، بل تُجّاراً، نسهرُ بينَ الجواري اللواتي يعزفنَ العودَ، ووجوهُهنَّ محمرَّةٌ كالشفقِ عند البوابةِ الشرقية.
وكأنه لم يكُ يعي حدودهُ، كنهرٍ يفيضُ، وكان فناناً في التجَنُّبِ حتى أن زوجتي “سكارلت” بطلة “ذَهَبَ مع الريح“، حاولت مرّةً إغراءهُ، فحدَّثتْهُ عن الملَلِ، وعن لوحةٍ فيها رجلٌ يصوِّبُ بندقيتهُ إلى رأسِ ظلهِ الساقطِ على الحائطِ في ساحةِ الظهيرة، ولم يفهمْ. لِمَ؟ قالت، فقال كلماتُها أجراسُ زجاجٍ تتلاطمُ كنجومٍ معلّقةٍ بسلاسلَ من ذهبٍ في فضاءٍ خالٍ، وقالَ بأنه سَمِعَ أبعدَ مما يجب، وبأن الصوتَ سوطٌ، والكلماتِ كتلُ جليدٍ أو حجر. وهكذا نامت معي لوحدِها، إنفصَلَتْ عنّي ولم تتَّحِدْ بِهِ، وحَمَّلَتْهُ الإنهيار.  ورأيتُهُ ينظرُ للخلفِ، نحو البوابةِ الشرقيةِ التي تُغْلَقُ بقِفلٍ مفتاحُهُ المساومات، لا ! ليس حلاًّ  وسطاً. كان هو ليس حلاًّ وسطاً، لا ذاكَ ولا هذا، وكان يبدو بلا حلٍّ أبداً. وكان يهزأُ بالإرتياحِ، ويفضِّلُ المغامرةَ على السعادةِ، والعقلَ الأوَّلَ عندَ الفارابي على المعقولِ عندنا في طنجة، ويتنقل بحثاً عن امرأةٍ قال بأنها عَرَفَتْهُ في حيـــاتِهِ السابقة، ولا يتورَّعُ في البحثِ عنها في الماخوراتِ في الدارِ البيضاء، وقال الأشياءُ فَشِلَتْ في العيشِ حسب مفهومِها، مفهوم الأشياءِ ما يقصدُ، فَشِلَتْ، وقال الظلُّ لا يكفي للقاءِ الأصلِ. وعندما يعودُ الحصانُ الأصفرُ إلى سفح الجبلِ يبدو منتشياً بالعودةِ من الخارج.
حاولتُ أفلقَهُ كحبّةِ جَوْزٍ كي أفضحَ داخِلَهُ، لا داخلَ فيهِ، أو هكذا شعرتُ. وكان واضحاً، ووضوحُهُ يُخيفُنا، فنلتفُّ بعباءةِ السرِّ وننفضحُ نحنُ، وكنا نحبُّ الغموضَ، وكان واضحاً، وهذا ما كان غامضاً فيه، حتى أن عاهرةً مقدسةً، من أوغاريت، على ما أعتقدُ، إتَّهَمَتْهُ بأنه لا يغسلُ ملابسَهُ الداخليّةَ، وجرحَتْهُ. ربما كانت على حقّ، ولكنني رأيتُهُ يسبحُ في الزبدِ المُشمسِ كلَّ صباحْ، ولم يتكلمْ عن الرّملِ الذي فينا. وفي احتفالاتِ الربيعِ قالت له مالكةُ عبيدٍ بأنها تشعرُ بالذّنبِ لأنها تستعبِدُ غيرها وتودُّ تسريحَ عبيدِها، قال لها الأدنى يخيفُ، وقال بأن جمهرةً من أرواحٍ عبدةٍ تسكنُ في روحِها هي، ونَصَحَهَا بالخروجِ، وقال غامضاً.
كان استثناءً، لذا ركّزنا على عمامتِهِ الخضراءِ، وكان يلبسُ زنّاراً من حريرٍ مطرّزٍ، وحذاؤه قوقعتيّْ سلحفاتينِ مرصّعتينِ باللؤلؤِ، وكنــا نتوشوَشُ سرّاً عنهُ،  وأخيراً في طنجةَ لَبِسَ كاهِلَها وصارَ من بيننا، قلنا تنازل، لكنه لا يجدُ جدوىً في الصراعِ على اخضرارِ عمامة، وتجنب، وكان فناناً في التجنب، وأعتقدنا بأنه صار عادياً، وكذا صارَ، ولكن هذه من أغربِ خطواتِهِ: أعني عاديّتهُ.
وفقدنا الكثيرَ حين فَضَّلَ الصمتَ و العزلةَ في بيت تخفقُ الريحُ فيه، وكنا نرى مصباحَهُ مضيئاً بحمرةٍ شاحبةٍ، حتى ساعاتٍ متأخرةٍ، ورأيناهُ يرقصُ منفرداً على موسيقى للهنودِ الحمرِ، وازددنا حيرةً، فهو لم يرقصْ لنا ولم يرقصْ له، بيتُهُ كان يطلُّ على البحرِ من الجبلِ، وعلى البوابةِ الشرقيةِ من الغربِ، من حيث كنا نمرُّ عليه في احتفالاتِ ديونيسيوس، حامليَن عضواً ذكرياً ملقىً كالحبلِ على أكتافِنا، قلنا لِمَ لا يفرحُ؟ قال فرحتُنا نمطْ، وضحِكَ بعمقٍ، مطلاًّ من شباكِهِ، كمن وجدَنَا ثانيةً بعد سفرِ قُرونٍ، مستغرباً وبمرحْ، ورأيتهُ ليلتَها يحاول إغراءَ ابنةِ تاجرٍ من أصفهان تحملُ إكليلَ غارٍ وتلبسُ الأبيضَ في الإحتفالاتِ، وتحملُ سلّةً فيها سعفُ نَخْلٍ، لكنها فضّلَتْ غيرَهُ، ولم يكُ عاهراً [ إلا حينما يميلُ النخلُ في معبدِ القمر كي يوحي للعرافاتِ بوحيٍ قديمْ ]، و لا قدّيساً، بل أشبهَ بنايٍ تُصَفِّرُ الريحُ فيهِ، أغانيهِ ليست منهُ، ولم نلُمْهُ، وأدرَكْ، وكان يتعرّى ويمســـحُ جسمَهُ بالزيـتِ في الإحتفالاتِ، فأُعْجِبَــــتْ بجســــدِهِ سكارلتْ، زوجتي، بطلـةُ "ذَهَبَ مع الريح"، قالت تتمنّى الخضوعَ لقوّتِهِ، قال لا قوّةَ فيهِ على إخضاعِ أحدْ، وقال اللذَّةُ أعمقُ من الممنوعِ، وهي اللذّةُ تحتَ الممنوعِ كالماءِ تحتَ العشبِ، وكنا عُشباً ممنوعاً نتأرجحُ كمشنقةٍ في غروبِ الأشيـاءِ، قال خيرُ تعاليمي وجودي هنا، وهناك مسافةٌ من وعيٍ بين اللهِ وبين المؤمنِ به، قال، وازددنا حيرةً.وأكثرُ ما حيَّرَنا فيهِ أنّه لم يكن امرأةً، ولا رجلاً. كلُّنا نعرفُ، كان رجلاً، بمعاييرِنا،وحَسَبَ عرافةِ طنجة كان أنثىً، بمعاييرها، وسألناهُ، قال الأُنوثةُ و الرجولةُ ضفّتانِ لنهرٍ واحدٍ وهوَ اختفاءُ النهرْ عندَ لقاءِ الضفتين، بِلُغَتِنَا. لكنه كان أبعدَ مما يجبُ، لا ذاكَ ولا هذا، غامضاً، وراءَ اللغةِ، ورَمَتْهُ سكارلت بإناءِ زهورٍ عندما تحدَّثَ
عن منطقةٍ كهذه، بمعاييرها، فتجنَّبْ، وكان فناناً في التجنب، قال عن زوجتي "وعيُها طبقة"، وقال، لاحقاً، بأنه تجوَّلَ حول ضواحي الجنونِ، وعاشرَ سكانَ هذي البلد، وتوقفَ بين المألوفِ والجنون زَمَنَاً، لا يرجع من حيث جاءَ، ولا يوغِلُ في حيثُ يتجهُ، سأَلَتْهُ إن كان هناك لم يـزلْ، قال التردُّدُ بين المألوفِ والجنونِ طبقة، وهو قبيلةٌ جديدةٌ من أستراليا، والقاراتُ بيتَهُ، والإمبراطوريةُ محدودةٌ، ولم نَفْهَمْ.
وانتظرتْهُ سكارلت، زوجتي، وكانت كمن تزرعُ البصلَ والثومَ في الشمالِ، لكي تفهم عودَتَهُ بين القراصنةِ القُدامى، كذكرىً بلا عاطفة، قال الذاكرة متحفٌ ميِّتٌ، والجليدُ مهمٌّ، قعرُ الجحيمِ عند دانتي من جليدٍ، وهكذا كنت أَنْشَعِبُ ولا يوحِّدُني بي.
وأريدُ أن أُحدِّثَكَ عن تلك الحفلةِ في قصرِنا في أصفهانْ،
سوف أحدثكَ أنا، تايريزياس، الذي رأى كلَّ هذا، عنه،
وعن الوجعِ الذي لا بحرَ ولا إيقاعَ له،
الوجعِ المحشورِ كالنمرِ البِنغاليّ في قفصِ الصدرِ،
الحزنِ الذي في الروحِ يسري كأفعى الماءِ،
وعنها،
تلك الخارجةُ من الرواياتِ لكي تَئِنَّ تحتَهُ وتتأوَّه،
وأنا، تايريزياس، في الغرفةِ المجاورةِ،
أنا الذي يمزجُ الحزنَ باللصوصيةِ،
ويمنعُني الإفتعالُ عن الإنفعالِ، والكبرياءُ عن الشكوى،
أنا، من ينكرُ حين يرى،
حين كانت تئنُّ تحتهُ كذئبةِ اللَّذَّةِ، راميةً رأسها للخلفِ،
مع ذلكَ البرنزيّ الذي لفحتهُ شمسُ الصحراءِ الحمراءِ،
وقالت، بين التأوُّهِ والإستثارةِ، عني،
أنني آمنٌ مثل بيتِ اللهِ الحرامِ، ويوثقُ بي،
ومعي لا تشعرُ بعد فِعْلَتِها بالضياعِ،
ولكن اللذَّةَ معهُ،
ذلك الطفلُ القادمُ من الصحراءِ وقبيلةِ التوريغ،
مثيرةٌ بجنونٍ وبِدئية،
وكنتُ واقفاً، بحواجبٍ الشيبُ سرى فجأةً فيها،
في الغرفةِ الأخرى، بين القططِ، والكتبِ، والإضاءاتِ الخافتةِ، أرى كلَّ هذا،
أنا الذي حاصرتني مَرّةً أخرى العادةُ،
وفيَّ تحدو قوافلُ غروبٍ شاملٍ في أفقٍ من رملٍ،
ووجهي يحتملُ أقنعةً عِدّة،
تايريزياس، العرّافُ الأعمى،
حيث الرؤيا لا تجدي في وطنٍ فيه الجريمةُ أفضلُ الخياراتِ، وأفضلُ الخياراتِ جريمةٌ،
والموهبةُ لا تجدي بين الإمتيازاتِ،
وطنِ المجاعةِ والفراغِ، حين المعرفةُ فارَقَتْها دفقةُ الحياةِ،
أنا الذي سيحدِّثُكَ عنه !
كان يبدو تحتَ السطحِ، كامناً، حتى لحظةِ النظرِ إلى الداخلِ، حين يسري في الروح كأفعى النهـرِ، وما كان فظاً، كنتُ أحتاجُهُ مولاي، ما كان فظاً، فأراني كهفاً فارغاً مقمراً في أعلى جبلِ الروحِ وقالْ: هنا أتعبَّدْ، والصمتُ كلامي فانظرْ فيهْ، أغناءُ الروحِ حاجتُكَ الجوهرةُ المنقوشةُ على شكلِ فارسٍ من البرونزِ والتأمُّلْ، لما يتعمَّقُ وعيُكَ ويحتاجُ الفيضانُ هذه المدنَ لن يبقى من هذهِ المدنِ إلا الريحُ التي عَبَرَتْها الخيانةُ في الروحِ نفضٌ لغبارِ المللِ، الملذاتُ كَثْرَةٌ، وكذا التضاريسُ كثرةٌ، قالَ، أرى البوابةَ الشرقيةَ مَعْتَمَةً من حديدٍ، والسيرُ في الطرقاتِ التي تفوحُ برائحةِ الحلاقينَ والجندِ ملذاتٌ مألوفةٌ يا عبدُ، قالْ. وفي تلك الليلةِ المغلقةِ بندمٍ وبنفسجٍ في قصرِنا في أصفهانَ المدعوَّاتُ معطراتٌ والمدعوّونَ معطرونَ الأيادي شموعٌ تشــعُّ في صـــالاتٍ مفروشةٍ بالفروِ الأبيضِ الناعمِ، المرايا كَثْرَةٌ، وعبيدٌ عراةٌ وعبداتٌ عارياتٌ في أياديهنَّ سعفُ نخيلٍ يروِّحْنَ عن الضيوفْ، وفي الطابقِ العُلويِّ، قبلَ الكشفِ، حيثُ لما أنّتْ تحتهُ قالت تُثيرُ، لهُ قالتْ، يا إلهي تُثيرُ، ورأسُها ذاتَ الشمالِ وذاتَ اليمينِ يروحُ كطيرٍ شدّتهُ اللذَّةُ للأرضِ، قالت ما يخرجُ منكَ جميلٌ، واللغةُ الممنوعةُ تطفحُ باللذاتِ المحزونةِ بعدما فرضَ الأمنُ المشبوهُ الكتمَ على الأحرفْ
توحَّدْ عندما تفكَّكُ الأشياءُ، يا عبدُ، قالْ
كانت واقفةً في الشبّاكِ الخلفيِّ كاشفةً نهديها للغروبِ كإقوحانٍ في إناءٍ، وأما هو ففي إيماءاتِ ضوءٍ أمْيَلِ للإخضرارِ، نصفُهُ في اللونِ ونصفُهُ خارجَ عتبةِ غرفةِ النومِ، بدا كقدرْ، لم تَرَني ولم يَرَني، لا يرى غيرُ المرغوبِ فيه، أحياناً. ورأيتُ بأن سكارلت تتقنُ الإنسحابَ إلى الداخلِ، كالأقباطِ خارجَ مصرْ، تتقوقعُ كسلحفاةٍ، وتمشي بزاويةِ 45، كسرطانٍ بحريٍّ، وهناك تختفي هويَّتُها حيثُ لا أصلُ، وأوهمْتُها بأن قلبي يَصِلْ. مَنْ قالَ هذا:
"
تركتُ الحبيبةَ - لم أنْسَها - في غروبِ الشجرْ...
توهَّمْتُ أن السمواتِ أبعدَ من يدِها عن جبيني
وأوْهَمْتُها أن قلبي يَصِلْ"؟
وبعدها غادرْ. راقَبَتْهُ سكارلت من شُبَّاكِنا الخلفيِّ، مددتُ يديَّ إلى قبابِ نهديها النحاسيةِ تحتِ الغروبِ قالت البحرُ هاديءٌ وبأنها سترحلُ إلى بحرِ إيجةَ، وتَبِعَتْها قِطَّتُها السياميةُ التي لم تكن تحبُّ أحداً،
وجلَسَتْ على حقائبِ الجلدِ الأحمرِ الكالحِ بانتظارِ شعوبِ البحارِ. وتجوَّلتُ وحيداً في رَدَهاتِ القصرِ، فتحتُ قناني النبيذ ونصَّ اللآليء.
"
حتى من أجلِ شربِ الخمرِ، احتجتُ إلى النصحِ..
أنها نهايةُ الزهُوِّ..
وفي النهايةِ كلُّ شيءٍ باطلْ.
فدخل مولايَ وجلسَ بقربي في المكتبةِ، وكان خفيّاً كشبحٍ، فأثارَ غبارَ المخطوطاتِ عليَّ وحـوليَ، وبكيتُ، فقالَ يا عبدُ، جُزْ هذه المنطقةَ، أحياناً نعمى حين نرى.

No comments:

Post a Comment